لم يحدث أن تشدد عالم من علمائنا الكبار مع منهج دعوي من أهل السنة يتمتع بأرضية علمية صلبة وقاعدة شعبية متزايدة مثل ما حدث من فضيلة الدكتور علي جمعة المفتي الحالي للديار المصرية مع أصحاب الفكر السلفي ذي الانتشار الواسع في مصر. وفي هذا العرض لكتاب الدكتور جمعة الأخير نكشف عن هذا الموقف الغريب.
عرض كتاب:
المتشددون..
منهجهم..ومناقشة أهم قضاياهم
تأليف الدكتور/ على جمعة.
دار النشر : وزارة الأوقاف المصرية.
تاريخ الإصدار: أول رجب 1432 هـ.
تتأثر
الأوليات تبعاً للمصلحة تقديما وتأخيرا، فما كان ملحاً بعد ثورة الخامس
والعشرين من يناير مثل وحدة الصف ونبذ الفرقة وبناء مصر راوح مكانه وحل
محله ما بات يعرف بحملة القضاء على السلفية، حدث هذا بعد صدمة العلمانيين
والأقباط وفلول النظام السابق من قدرة السلفيين على تحريك الشارع المصري
للحفاظ على هويته الإسلامية التي تضمنتها المادة الثانية من الدستور، وفي
ركاب هذه الحملة أصدر مفتي مصر الدكتور علي جمعة كتابا جديدا بعنوان
"المتشددون" ضمن إصدارات وزارة الأوقاف ، ولضمان وصول الكتاب إلى أصابع
رجل الشارع العادي تم دعمه من أموال دافعي الضرائب ليباع في نهاية المطاف
على الأرصفة والأكشاك بـ"جنيه واحد" فقط.
استهل
مفتي مصر الدكتور علي جمعة المعروف بنزعته الصوفية الحادة الكتاب بشن هجوم
حاد على التيار السلفي ، ووصف كافة مدارسه الحركية والعلمية جملة واحدة
بـ"المتشددين"، وحول الدلالة الحديثة للمصطلح ذاته قال جمعة إن :"مصطلح
السلفية أسيء فهمه واستخدامه واستغلاله، إذ يدعى بعض من ينتسب إلى هذا
المصطلح أنه هو الوارث الوحيد للسلف، ومن ثم لا سلفي سواه، بل يصف هؤلاء
علماء الأمة ودعاتها الصادقين بالمبتدعين"، مدعياً أنه لا صلة بين سلفي
العصر الحالي والسلف الصالح.
وفي
قسم آخر من الكتاب قال جمعة إن ادعاء من وصفهم بـ"المتشددين" بأن منهجهم
هو "المذهب السلفي ما هو إلى خداع لأن السلف كان لهم هذا المذهب الفقهي
الذي اتفقوا عليه وهذا محض وهم، فالسلف لم يجتمعوا على مذهب واختلفوا في
قضايا كثيرة"، ونصب المفتي محاكمة سريعة للسلفيين وأنزل حكمه عليهم دون
عرض حجة الطرف الغائب قائلاً أن :"أغلب من تسموا بالسلفيين واتجاهاتهم
وسلوكهم ومواقفهم وأحكامهم على الأشياء باطلة كما أنهم يتبنون فكرا صداميا
يفرض أمورا ثلاثة"، أولها: أن "العالم يكره الإسلام، والمسلمون يتعرضون
لحرب شعواء ضدهم من أجنحة الشر الثلاثة الصهيونية (اليهود) والتبشير
(النصارى) والعلمانية (الإلحاد)، وأن هناك مؤامرة تحاك ضد المسلمين مرة في
العلن ومرات في الخفاء"، وثانيها "وجوب الصدام مع هذا العالم الذي يسعى
لحرب مع الإسلام وهو إما بقتل الكفار الملاعين أو بقتل المرتدين الفاسقين
وهم المسلمون الذين يخالفون فكرهم"، وثالثها :"أن فكرهم يراد له أن يكون
من نمط الفكر الساري الذي لا يتقيد بقيود منظمة من خلال مؤسسة أو قائد،
مما يشيع معه الفوضى".
ويحاول
الكتاب الاستحواذ على عقل القارئ وسلب قناعته بالقول :"لقد أصبح توجه
هؤلاء المتشددين عائقا حقيقيا لتقدم المسلمين ولتجديد خطابهم الديني
والتنمية الشاملة التي يحتاجها المجتمع الإسلامي، خاصة مصر، وهذا التوجه
المتعصب أصبح تربة صالحة للفكر المتطرف، وأصلا للمشرب المتشدد الذي يدعو
الأمة إلى تشرذم المجتمع وإلى انعزال الإنسان عن حركة الحياة وأن يعيش
وحده في خياله الذي غالبا ما يكون مريضا غير قادر على التفاعل مع نفسه أو
مع من يحيط به من الناس.
ويذهب
المفتي في اتهام السلفيين بالجمود والتخلف إلى الحد الذي لم يعد يري لهم
حسنة أو يحسب لهم فضيلة، وفي ذلك ينسب إليهم القول بأن :"الحياة خطيئة
وأنه يجب علينا أن نتطهر منها وأن التطهر منها يكون بالبعد عن مفرداتها
سواء أكانت هذه المفردات هي الفنون أو الآداب أو كانت هذه المفردات هي
المشاركة الاجتماعية أو حتى تعلم أساليب اللياقة، فتراه يتمتع ويتفاخر
بالخروج عن الحياة لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بصورة تامة".
وفي
محاولة غير خفية لشحن المجتمع المصري ضد السلفيين الذين كان لهم أثراً
ملموسا في حسم التصويت في التعديلات الدستورية، قال المفتي في كتابه أن
السلفيين يتميزون بامتلاكهم عقلية الانطباع والهوى وهى عقلية تخالف
العقلية العلمية، ومن هنا فهم متعبون في تلقيهم التفكير المستقيم، ونراهم
متمردين منعزلين لا يثقون في العلماء ولا يثقون إلا في طائفة قليلة تجارى
أهواءهم، كما يتميزون بامتلاك عقلية المؤامرة يرون كل ما حولهم وكأنه يحيك
ضدهم مؤامرات ويحاول أن يبيدهم من على الأرض، مما يجعلهم متحفزين دائما
بأن يكونوا معاندين لمن حولهم.
ولم
يفوت الكتاب الذي أصدره المفتي على صغر حجمه الفرصة في التنفير من أخلاق
المتشددين كما وصفهم، فقال :"يتميز هؤلاء المتشددون بالكبر والعجب الذي
يحتقر معه كل رأى سواهم، ويقفون ضد أي إصلاح في المجتمع بدعوى أن كل جديد
بدعة"، كما وجه رسالة مهمة للنخبة العلمانية يطالبهم بألا يتركوا الساحة
الآن.. لأن مقاومة "الفكر المتشدد" واجبة على الجميع خاصة النخبة
العلمانية التي اعتلت منصات ومنابر برامج "التوك شو" لا لتفند فكر
السلفيين أو تطرح خطابا مغايرا بل لتشبعنا "ولولة" و"عويلا" من تنامي
التيارات الإسلامية.
وفي
نهاية الكتاب يتهم المفتي الفكر السلفي بوصفه فكرا صداميا ، في حين أنه
فعل ما نهى عنه حينما استجلب ضدهم الناس و دعا إلي مصادمة وقمع السلفيين،
كما قامت كلمات المفتي بتصوير المتدينين السلفيين كأنهم شياطين من المريخ
أتت على حين غفلة وتجسدت فجأة بين الناس ، وطوال صفحات الكتاب القصيرة لم
يبحث المفتي عن نقطة اتفاق واحدة أو إلي طريقة معتدلة في التعاطي مع الفكر
السلفي عن طريق الحوار، بل ركز فضيلته عبر فصول الكتاب و بطريقة هجومية
غير مبررة علي العيوب مع افتعاله لبعضها و تضخيمه للبعض الآخر، يأتي هذا
في وقت يحاول فيه السلفيون جاهدين تقليل مساحات الخلاف و ردم الهوة بينهم
وبين التيارات السياسية المختلفة.
وفيما
يبدو انه خروجا عن الحيدة في النقد قدم المفتي عبر كتابه "المتشددون" صورة
متشنجة وليست جديدة من الهجوم الصوفي ضد التيار السلفي، مستغلا في ذلك
حالة الاحتقان التي ينفخ فيها الإعلام الذي يسيطر عليه التمويل العلماني
والقبطي على مجمله، وناشد المفتى غير الإسلاميين أن يقاوموا هذا الفكر
الذي وصفه بـ"المتشدد"، وأن يعملوا بكل وسيلة على إخراج أولئك من عزلتهم،
لأنهم –
بحسب ما جاء في الكتاب- لم يعودوا ضارين لأنفسهم فقط لكن ضررهم تعدى إلى
من حولهم وإلى شباب الأمة ومستقبلها وإلى المجتمع بأسره، وعلى غرار من قال
"دقت
ساعة الزحف..دقت ساعة العمل "، أعطي المفتي إشارة الزحف للنخبة العلمانية
مؤكداً أنه قد حان الوقت لأن يكون مقاومة هذا الفكر "المتنطع" مطلبا
قومياً ، يأخذ البلاد في درب الفكر الوسطى للأزهر الشريف ويبعدها عن تشدد
السلفيين.
ووجه
المفتي في كتابه 17 اتهاماً إلى السلفية ، كان على رأسها اتهامهم بانتقاص
الإمام الأشعري، والتهجم على أتباع المذاهب الفقهية الأخرى وعلى رأسها
الشيعة، وتهكم على تمسكهم بالعبادات الظاهرة مثل اللحية وتعبدهم بالحشمة
في الثياب، واصفا أي رجل يرتدي جلبابا قصيرا بالمتشدد وأي امرأة ترتدي
النقاب بأنها متشددة