سؤال:
نحن مشرفات بمنتدى نسائي ولكن يدخله الرجال بحدود ولأقسام
معينة ونجلس بحكم هذا العمل الإشرافي الساعات الطوال نحذف ونعدل ونرتب
المواضيع والمنتدى توجهه ولله الحمد إسلامي وهدفه سليم ، ولكن هل هذا
الوقت الذي نقضيه من الدعوة إلى الله ؟ وهل الجلوس لقراءة القرآن أو فعل
الطاعات أفضل من هذا الإشراف ؟
الجواب:
الحمد لله
الدعوة
إلى الله تعالى من أجل الأعمال الصالحة ، والقربات النافعة ، والطاعات
المتعدّية لنفع الآخرين ، ولهذا كان القائم عليها والمنشغل بها سائرا على
سبيل الأنبياء والمرسلين ، كما قال تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف/108 ، وقال
سبحانه : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فصلت/33 .
وقد جاء في
الترغيب في القيام بأمر الدعوة نصوص كثيرة من الكتاب والسنة ، منها قوله
صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ
مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْئًا ) رواه مسلم (2674).
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ
حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى
مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ ) رواه الترمذي (2685) وصححه الألباني في
صحيح الترمذي .
والدعوة إلى الله لها وسائلها المتنوعة ، وطرقها
الكثيرة ، كالكلام المباشر ، في الخطب والمواعظ والمحاضرات ، وعبر الأشرطة
، والكتابة عبر الرسائل ، والنشرات ، وفي المنتديات .
ومن ذلك : إنشاء
المنتديات النافعة ، والإشراف عليها ، وتوجيه أهلها ، والتعليق على ما
مقالاتهم ومشاركاتهم ، فكل ذلك من وسائل الدعوة إلى الله تعالى ، وتعليم
الناس الخير .
بل هذه المنتديات أصبحت وسيلة رائدة في التوجيه ،
والإصلاح ، والدعوة والاحتساب ، وللقائمين عليها أجر عظيم على قدر نياتهم
وأعمالهم ، وبذلهم وعطائهم .
وعليه ؛ فينبغي أن تحتسبي الوقت الذي
تقضينه في متابعة هذه المشاركات والتعليق عليها وتوجيه أصحابها ، لكن مع
الحذر من أن يشغلك هذا عما هو أهم وأنفع ، كالقيام بمسئولية الزوج
والأولاد ، وتحصيل العلم الشرعي ، والمحافظة على قراءة القرآن والأوراد ،
فإن بعض الناس ينشغل بمتابعة المنتديات عن أعمال أهم ، وقربات أعظم ،
والفقه هو معرفة الأولويات ، وتقديم الأهم على المهم .
وما أجمل أن
يضرب الإنسان في كل غنيمة بسهم ، فيكون له حظ من هذا ومن هذا ، يهتم بما
ينفع نفسه وما ينفع غيره ، يسعى في الارتقاء بنفسه علما وعملا ، ويبذل من
وقته في نفع الآخرين ودعوتهم وإصلاحهم ، فلا يشغله حق عن حق ، ولا يصرفه
خير عن خير ، وبهذا يجعل الله لكلامه تأثيرا ، ولنصحه فائدة ، لأنه قرن
القول بالعمل ، وكان شعاره : ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى
مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ ) هود/88 .
والنفس تحتاج إلى فقه في التعامل معها ، فيغتنم
الإنسان فترة إقبالها وحضورها ، فتارة يكون ذلك بقراءة القرآن ، والإكثار
من النوافل ، وتارة بحضور مجالس العلم ومطالعة كتبه ، وتارة بدخول المنتدى
والإشراف عليه ، فأفضل العبادة ما صادف حضور النفس وإقبالها وانشراحها ،
ووافق وقت الحاجة إليها .
ولابن القيم رحمه الله كلام نافع جدا في
المفاضلة بين العبادات ، نورد شيئا منه ، فمن ذلك قوله رحمه الله : "
وكذلك حال القلب ، فكل حال كان أقرب إلى المقصود الذي خلق له فهو أشرف مما
دونه ، وكذلك الأعمال ، فكل عمل كان أقرب إلى تحصيل هذا المقصود كان أفضل
من غيره ، ولهذا كانت الصلاة والجهاد من أفضل الأعمال وأفضلها لقرب
إفضائها إلى المقصود ، وهكذا يجب أن يكون ، فإنه كلما كان الشيء أقرب إلى
الغاية كان أفضل من البعيد عنها ، فالعمل المعد للقلب المهيئ له لمعرفة
الله وأسمائه وصفاته ومحبته وخوفه ورجائه أفضل مما ليس كذلك . وإذا اشتركت
عدة أعمال في هذا الإفضاء فأفضلها أقربها إلى هذا المفضى ، ولهذا اشتركت
الطاعات في هذا الإفضاء فكانت مطلوبة لله ، واشتركت المعاصي في حجب القلب
وقطعه عن هذه الغاية فكانت منهيا عنها ، وتأثير الطاعات والمعاصي بحسب
درجاتها . وها هنا أمر ينبغي التفطن له وهو أنه قد يكون العمل المعين أفضل
منه في حق غيره .
فالغنى الذي بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شيء منه فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة .
والشجاع
الشديد الذى يهاب العدو سطوته ، وقوفه في الصف ساعة وجهاده أعداء الله
أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع . والعالم الذى قد عرف السنة والحلال
والحرام وطرق الخير والشر ، مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل
من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح " انتهى من "عدة
الصابرين" ص (93).
وقال أيضا :
" إن أفضل العبادة العمل على مرضاة
الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت
الجهاد: الجهاد ، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار ، بل
ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن .
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا : القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب ، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل .
والأفضل في أوقات السحر : الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار .
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل : الإقبال على تعليمه والاشتغال به .
والأفضل في أوقات الأذان : ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن .
والأفضل
في أوقات الصلوات الخمس : الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه
والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى الجامع وإن بعُد كان أفضل .
والأفضل
في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال : الاشتغال
بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك .
والأفضل في وقت
قراءة القرآن : جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى
يخاطبك به ، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من
جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة : الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك .
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة : الإكثار من التعبد ، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين .
والأفضل
في العشر الأخير من رمضان : لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي
لمخالطة الناس والاشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم
وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء …
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ،
والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد ( وهم الذين غلب عليهم عبادة معينة ،
كقيام الليل أو قراءة القرآن أو الصيام ) فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي
تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبد
الله على وجه واحد ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره
على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت .
فمدار تعبده
عليها ، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على
سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى ، فهذا دأبه في السير حتى
ينتهي سيره ، فإن رأيت العلماء رأيته معهم ، وإن رأيت العباد رأيته معهم ،
وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم ، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت
المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على
الله رأيته معهم ، فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده
القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات ،
بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق
ب (إياك نعبد وإياك نستعين) حقا ، القائم بهما صدقا " انتهى من "مدارج
السالكين" (1/8.
وخلاصة الجواب : أن الإشراف على هذا المنتدى هو من
الدعوة إلى الله تعالى ، فلا ينبغي تركه ، ولكن ينبغي أن ينظّم المسلم
وقته ، فللدعوة إلى الله وقت ، ولقراءة القرآن وقت ، وللصلاة وقت ، وللأهل
والأسرة وقت ، وهكذا ، فيعطي كل ذي حق حقه
نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسداد .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب