بقلم : الرئيس العام
د عبد الله شاكر الجنيدى
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين،
والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الأبرار الأطهار إلى
يوم الدين.. وبعدُ:
فالأمة اليوم تمر بمرحلة عصيبة في حياتها، تحتاج فيها إلى جهود العلماء
الربانيين الذين يعرفون الداء، وينشرون الدواء، والأمة في أمسّ الحاجة
إليهم للنهوض بها، والمحافظة على ثوابتها، وإني نظرت إلى الأحوال الواقعة
في الساحة اليوم فوجدت عجبًا، البعض ينادي ويرفع صوته بضرورة تنحية الدين
عن حياة الأمة، بل يذكرون أنه لا يصلح لقيادة البشرية، وآخرون ينادون
بالعودة إلى الإسلام عقيدة وشريعة، وهذا هو الحق الذي ندعو إليه ويجب أن
نلزمه، غير أن الطائفة الأولى توحد صفها وتجمع كلمتها في مواجهة الحق،
والآخرون بينهم ضرب من الخلاف أحيانًا في مسائل مهمة، أو ما يمكن أن أطلق
عليه «أوّلِيّات العمل في هذه المرحلة» للانطلاقة بهذا الأمة إلى ما يجب أن
تكون عليه من قيادة وريادة، وقيام بالدين كما جاء من عند رب العالمين.
ولهذا سأذكر أهم الثوابت التي يجب أن يدركها الدعاة إلى الله خاصة،
والأمة الإسلامية بعامة، ونحن في أمس الحاجة إليها اليوم؛ لتستقيم حياة
الأمة وتعلو كلمتها وتنهض من كبوتها، ومن هذه الثوابت:
1- الدعوة إلى إخلاص الدين لله وعبادته وحده دون سواه:
توحيد رب
العالمين أصل الأصول في الدين، وتوحيد العبادة أهم ألوان وأنواع التوحيد؛
إذ به تُساس الحياة، وعليه تبنى الشريعة، وما أرسل الله رسولاً إلا وبعثه
بمدلوله، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ»
[الأنبياء: 25]، وهو حق الله الذي لا يكون لغيره، وهو أول دعوة الرسل
أجمعين، قال تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» [النحل: 36]، فما من أمة
متقدمة أو
متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلهم متفقون على دعوة واحدة، ودين واحد، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له.
قال ابن كثير رحمه الله: «فلم يزل تعالى يرسل الرسل بذلك منذ حدث الشرك
في بني آدم، في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوحًا، وكان أول رسول بعثه الله
إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي طبقت دعوته
الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: «وَاسْأَلْ
مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ
الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» [الزخرف: ,45تفسير ابن كثير: 2/768].
وقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم محمدًا أن يدعو أهل الكتاب
إلى التوحيد، فقال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ
وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ» [آل عمران: 64]، والآية قررت وحدانية الألوهية، ووحدانية
الربوبية، وكلاهما متفق عليه بين الرسل، كما أن توحيد الألوهية هو أول واجب
يُدعى العباد إليه، وأول ما يُخاطب به الناس من أمور؛ وذلك لأن سائر
الأعمال لا تُقبل ولا تصح إلا به، فكما لا تُقبل صلاة بلا وضوء، لا تُقبل
عبادة بلا توحيد، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى
اليمن قال له: «ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى
الله عليه وسلم...». [البخاري 1395].
وهذا هو التوحيد الذي يجب البدء به، والشهادتان والإقرار بهما أمارة على
ثبوته ووجوده، وهو معقتد النجاة في الدنيا؛ إذ به يثبت عقد الإسلام وتُعصم
الدماء والأموال إلا بحقها، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا
إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». [مسلم: 34].
وقد دلَّ الحديث على صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد ونفسه، كما أن هذا
التوحيد هو معقد النجاة في الآخرة، قال الله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» [النساء: 124]، فاشترط
لدخول الجنة الإيمان بالله – وهو توحيده – مع العمل الصالح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أشهد أن
لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى اللهَ بهما
عبدٌ، غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة». [مسلم: 44].
وفي حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «يا
معاذ: أتدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن
يُعبد الله ولا يُشرك به شيء». قال: «أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟»
فقال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن لا يعذبهم». [مسلم: 50].
وقد صح الخبر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل
الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وأن تكون آخر ما ننطق به في دار
الدنيا.
ومما يؤسف له أن البعض يعيب على أنصار السنة المحمدية اهتمامها بهذا
التوحيد، وسعيها في نشره بين أفراد الأمة، ويعتبر ذلك مذمة ينتقصهم بها،
ونحن جميعًا نلاحظ ما يقع فيه البعض من صرف لأنواع العبادة لغير الله،
كالدعاء والذبح والنذر والتوسل، وغير ذلك، وهذه صور مشاهَدة وواقعة فيما
يُعرف بالموالد التي تُعقد وتقام بين الحين والآخر هنا وهناك. نسأل الله
السلامة والعافية.
2- تعظيم نصوص الكتاب والسنة:
أرسل الله نبيه ومصطفاه محمدًا صلى
الله عليه وسلم لهداية الخلق، وأنزل عليه الكتاب والسنة، ونزلا بعلمه
سبحانه، قال تعالى: «لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ
شَهِيدًا» [النساء: 166]، وهذا يدل على أن ما بلّغه الرسول صلى الله عليه
وسلم كله حق، وعلى كل مسلم أن يقابله بالتصديق الجازم والتسليم المؤكد،
والقرآن والسنة هما المصدر الرئيسي للشريعة الإسلامية، وقد اشتملا على أصول
الهداية وإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة.
ولن يكون للمسلمين شأن ولا عز ونصر وتمكين، ولا فلاح في الدنيا والآخرة
إلا بامتثال أوامر الله وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وردت
أوامر القرآن والأحاديث النبوية في وجوب العمل والانقياد والتسليم لما جاء
عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل قوله تعالى:
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا» [النساء: 69]، كما أمر الله
عباده المؤمنين بالتحاكم إلى الكتاب والسنة عند التنازع والخلاف، قال الله
تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»
[النساء: 59].
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي
– رحمه الله-: «أمر برد ما تنازع الناس
فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، أي: إلى
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فيهما الفصل في جميع المسائل
الخلافية، إما بصريحهما، أو عمومهما...؛ لأن كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما، فالرد
إليهما شرط في الإيمان، فلهذا قال: «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ».» [تفسير السعدي 2/89، 90].
كما جاءت آيات في
القرآن الكريم تمدح المؤمنين المعظّمين لحكم الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم مع البشرى العظيمة لهم وهي الفلاح والفوز. قال الله تعالى: «إِنَّمَا
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ» [النور: 51]، كما نهى الله تبارك وتعالى عباده
المؤمنين أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل،
فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ» [الحجرات: 1].
وهذا أدب عظيم أدَّب الله به عباده المؤمنين فيما يتعاملون به مع
نصوص القرآن والسنة، وأنه يجب على كل مسلم تعظيم واحترام الوحي الإلهي، وقد
ساق الحافظ ابن كثير – رحمه الله – أقوالاً عن السلف في تفسير الآية تبيّن
مدى تعظيمهم للنصوص والتسليم لها، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، حتى يقضي الله على لسانه، وقال الضحاك:
لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. [انظر تفسير ابن كثير
2/262].
وهذا هو حقيقة الأدب الواجب مع نصوص الكتاب والسنة، وهو عنوان سعادة
العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة، وصدق الله إذ يقول: «فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى» [طه: 123].
كما وردت أحاديث كثيرة تحث على وجوب العمل بالكتاب والسنة والتحاكم
إليهما، ومن ذلك ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: خطب رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم
ما إن اعتصتم به فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنتي». [أخرجه مالك في الموطأ
برقم: 1619].
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الاختلاف وحصوله في الأمة، كما
جاء ذلك في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، ثم ذكر صلى الله عليه
وسلم المخرَج من ذلك والطريق الصحيح الذي يجب أن يكون عليه المسلم، وهو
التزام سنته صلى الله عليه وسلم، وقد أوصى أصحابه بذلك، وهم أعمق الأمة
إيمانًا، وأكثر الناس تحريًا للحق واتباعًا له.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«دعوني ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم في أنبيائهم،
فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
[البخاري: 7288].
والحديث أفاد أنه ينبغي للمسلم أن يلتزم ما جاء عن
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العلميات
صدَّقه واعتقد حقيقته، وعمل بقلبه بمقتضاه، وإن كان من العمليات بذل وسعه
في القيام به فعلاً وتركًا، وهذا هو المسلك الصحيح الذي يجب أن تكون عليه
تجاه نصوص الوحيين.
قال شارح الطحاوية: «فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم
والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل
نسميه معقولاً، فنوحّده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحّد
المرسِل [الله] بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان، لا
نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسِل [الله]، وتوحيد متابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نتحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره».
وهذا هو منهجنا ودورنا الذي نسأل الله الثبات عليه.
والحمد لله رب العالمين.