بقلم : أحمد توحيد
الناظر في
شروح العلماء لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" ، يلحظ
وبشكلٍ واضحٍ وملموس أنه طرأ تحوّلٌ في فهم الحديث وأسلوب تناوله. فقد
كانت قريش صاحبة السيادة والرّيادة بين الناس، فناسبَ أنْ تكون الإمامة
فيهم، لأنّ الناس اعتادوا على التبعيّة لها. غير أنّ هذه المكانة بدأت
تتراجع، ولم يعُد الناس تبعاً لها كما كانوا بالأمس. ومع اهتزاز مكانة قريش
وجدنا أنّ مفهوم الحديث بدأ يتغير في نظر شرّاحه، فبينما كان جمهور
السابقين يقولون بشرط القرشية في الإمام، فإنه لا يوجد الآن تقريباً من
يقول بهذا الشرط.
وسوف نخرج من هذا البحث بأن القرشية هي شرط أفضلية
وكمال لا شرط صحة، فإذا اجتمع قرشيٌّ وغير قرشيّ وفيهما الشروط نفسها
والكفاءة نفسها، يقدَّم القرشيّ، وإنْ تميّز الآخر على القرشيّ بصفاته وكان
أكثر أهلية لهذا المنصب فهو أحقُّ به، ولا عبرة بقرشيّة الأول. فالإمامة
ليست محصورة فيهم، بل يجوز أنْ يكون الإمام قرشياً وغير قرشيّ. وهو الأمر
الذي يُفهم من ورود بعض الروايات بشكلٍ مقيَّد يشير إلى أن الإمامة ليست في
قريش بشكلٍ مطلق، وأنما هي فيهم ما استقاموا على أمر الله، وإلا سقط حقهم
في الخلافة. فالقضية ليست قضية عشيرة ونسب، لأن ذلك ليس من مقاصد الإمامة،
وإنما من مقاصدها قوّة النفوذ وهيبة السلطان لتحقيق المصلحة للأمة ودفع
الشر عنها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " الأئمة من قريش " .
ويبدو لي أنّ هذا النص هو الجزء الأول
من حديث مُطوّل رواه الكثير من أصحاب كتب الحديث. والذي جاء فيه أنّ أنس بن
مالك رضي الله عنه قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب
البيت ونحن فيه، فقال: «الأئمة من قريش، إنّ لي عليكم حقاً، ولهم عليكم
حقاً مِثلَ ذلك، ما إن استُرْحموا رَحموا، وإنْ عاهدوا وفَّوْا، وإنْ حكموا
عدلوا، فمنْ لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
وجاء الحديث السابق في إحدى روايات الإمام أحمد عن أبي برزة بلفظ
«الأمراء من قريش» . ورواه ابن أبي عاصم عن عمرو بن العاص بلفظ «الخلافة في
قريش إلى قيام الساعة» .
ورُوي هذا الحديث بصيغٍ أخرى مختلفة عند
البخاري ومسلم ، ولكن بدون لفظ
«الأئمة من قريش». ففي صحيح البخاري عن
ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا
يزالُ هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» وزاد مسلم «لا يزال هذا الأمر
في قريش ما بقيَ منَ الناس اثنان» . وفي رواية مقيّدة عند البخاري " إنّ
هذا الأمر في قريش، لا يُعاديهم أحد إلا كبَّه الله على وجهه ما أقاموا
الدين" .
ورَوى مسلم في كتاب الإمارة، عن أبي هريرة وعن جابر بن عبد
الله ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول صلى الله عليه وسلم قال: «الناس تبعٌ
لقريش في هذا الشأن، مسْلمُهم لمُسلِمِهم، وكافرُهم لكافرِهم» وفي رواية
«الناس تبعٌ لقريش في الخير والشر» .
وبتفصيلٍ أكثر للحاكم في مستدركه،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«الأئمة من قريش، أبرارُها أمراءُ أبرارِها، وفجارُها أمراءُ فجارِها،
ولكلٍّ حق، فآتوا كلَّ ذي حقّ حقَّه، وإنْ أمّرتُ عليكم عبداً حبشياً
مجدعاً، فاسمعوا له وأطيعوا، ما لم يُخيَّر أحدكم بين إسلامه وضربِ عنقه،
فإنْ خُيرَ بين إسلامه وضرب عنقه فليقدّم عنقَه، فإنه لا دنيا له ولا آخرة
بعد إسلامه» .
المقصود بالإمامة في الحديث
قال الراغب:
"الإمام: المؤتمّ به، إنساناً كان يُقتدى بقوله أو فعله، أو كتاباً، أو غير
ذلك، مُحقّا كان أو مُبْطِلا ً" .
وجاء في لسان العرب: "أمَّ القومَ
وأمَّ بهم: تقدمهم، وهي الإمامة. والإمام كل من ائتَمَّ به قومٌ، كانوا على
الصراط المستقيم أو كانوا ضالين" .
هذا هو مفهوم الإمامة في اللغة. فهل
الإمامة الواردة في الأحاديث هي بمعناها اللغوي الشامل ؟ أم هي الإمامة
العظمى ؟
نورد فيما يلي أهم أقوال العلماء في ذلك:
يُفهم من كلام
النووي (ت 676هـ) في ردّه على القاضي عياض؛ أنّ المقصود بالإمامة المفهوم
العام لها وليس فقط الخلافة كما يرى القاضي عياض (ت544هـ). يقول: "قال
القاضي عياض: استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث على فضيلة الشافعي. قال: ولا
دلالة فيه لهم؛ لأن المراد تقديم قريش في الخلافة فقط. قلت: هو حجة في
مزيّة قريش على غيرهم، والشافعي قرشيّ" .
ونصّ كل من ابن حجر
العسقلاني (ت852هـ) والسيوطي (ت911هـ) على أنّ المراد بالإمامة هنا
الخلافة.
وهو على خلاف ما ذهب إليه المناوي (ت1031هـ) الذي يقول:
"لفظ الأئمة جمع تكسير معرّف باللام، ومحله العموم على الصحيح، وبه احتج
الشيخان يوم السقيفة، فقبله الصحب وأجمعوا عليه ... قال السبكي: وفيه شاهد
للشافعي بالإمامة، بل بانحصار الإمامة، لأنّ الأئمة من قريش يدل بحصر
المبتدأ على الخبر عليه. ولا يعني بالإمامة إمامة الخلافة فحسب؛ بل هي
وإمامة العلم والدين" .
بينما يرى الشوكاني (ت1250هـ) أنّ الإمامة
هنا هي الخلافة. يقول: "فهذه الألفاظ تدل على أنّ المراد الإمامة
الإسلامية، وأما أمر الجاهلية فقد انقرض. ومن جملة ما يدل على هذا أحاديث
«الأئمة من قريش» كما ذكرنا. ومن جملة ما يدل على ذلك قوله: «الخلافة بعدي
ثلاثون عاماً، ثم مُلك بعد ذلك» وهو حديث حسن. ومعنى الخلافة معنى الإمامة
في عرف الشرع. هؤلاء الذين نصّ النبي صلى الله عليه وسلم على خلافتهم هم
الخلفاء الأربعة. وليس المراد هنا هو المعنى اللغوي الشامل لكل من يأتم به
الناس ويتبعونه على أي صفة كان، بل المراد بالإمامة الإمامة الشرعية " .
2.
مفهوم التبعية لقريش
جاء في رواية مسلم للحديث «الناس تبع لقريش في
الخير والشر» وفي رواية أخرى له «مسلمُهم لمسلمِهم وكافرُهم لكافرِهم». فما
المقصود بهذه التبعية ؟ وكيف تكون في الخير والشر ؟
قال النووي
(ت676هـ): "وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم «الناس تبع لقريش في الخير
والشر» فمعناه: في الإسلام والجاهلية، كما هو مصرَّح به في الرواية الأولى
لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حرم الله، وأهل حج بيت الله.
وكانت العرب تنظر إسلامهم؛ فلما أسلموا وفتحت مكة تبعهم الناس، وجاءت وفود
العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وكذلك في الإسلام هم
أصحاب الخلافة، والناس تبع لهم. وبيّن صلى الله عليه وسلم أنّ هذا الحكم
مستمرٌ إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان. وقد ظهر ما قاله صلى الله
عليه وسلم ؛ فمن زمنه صلى الله عليه وسلم إلى الآن الخلافة في قريش، من غير
مزاحمةٍ لهم فيها، وتبقى كذلك ما بقي اثنان كما قال صلى الله عليه وسلم " .
و
إلى ذلك ذهب ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) حين قال: "وقوله: وكافرُهم تبع
لكافرِهم، وقعَ مصداقُ ذلك؛ لأن العرب كانت تعظّم قريشاً في الجاهلية
بسكناها الحرم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله، توقف
غالب العرب عن اتباعه، وقالوا: ننظر ما يصنع قومُه، فلما فتح النبي صلى
الله عليه وسلم مكة وأسلمت قريش، تبعتهم العرب، ودخلوا في دين الله أفواجا،
واستمرت خلافة النبوة في قريش، فصدَق أنّ كافرَهم كان تبعاً لكافرِهم،
وصار مسلمُهم تبعاً لمسلمِهم" .
ويُلحظ في قول النووي السابق بأنه يرى
أنّ الخلافة مستمرة في قريش إلى قيام الساعة، وهي كذلك منذ عهدها الأول حتى
العصر الذي عاشه النووي. وتعقبه على قوله منَ المُحْدَثين الدكتور يحيى
إسماعيل فقال: "ولأنها استمرت -بحمد الله- هكذا في قريش، لم تقع في غيرهم
حتى وقت حياته فقد ظنّ -رحمه الله- أنّ الريح ستكون على ما كانت؛ فحمله هذا
الظن على تأويلٍ خُولِف ... إنّ الذي حمله على هذا عدم اعتباره للقيد الذي
أوردناه آنفاً حيث إنه لم يكن قد صدّقه الواقع ثمت، وقد صدّق الزمان القيد
وخالف تأويل النووي، فقد وقعت الخلافة آخراً في آل عثمان الأتراك. ولا
يمكن الاعتذار عن ذلك بأنها في آل عثمان كانت خلافة مُلك، فإنها في قريش
بعد الراشدين كانت كذلك في أغلب أحوالها" .
3. دلالة الصيغة التي وردت
بها روايات الحديث
إنّ للصيغة التي وردت بها الأحاديث علاقة بالخلاف
الواقع في مفهومها. فهل وردت الأحاديث بصيغة الخبر أم بصيغة الأمر ؟ وعلى
ماذا يدل ذلك ؟
يرى ابن حزم الظاهري (ت456هـ) أنّ لفظة «الأئمة من
قريش» هي لفظة جاءت بصيغة الخبر، ومع ذلك فإنه يرى أنّ هذا الخبر "إنْ كان
معناه الأمر؛ فحرامٌ أنْ يكون الأمر في غيرهم أبداً، وإنْ كان معناه معنى
الخبر؛ فمن لم يكن من قريش فلا أمر له وإن ادّعاه" .
بينما يرى ابن حجر
العسقلاني (ت852هـ) أنّ الصيغة تحتمل الأمر وتحتمل الخبر. يقول: "ويُحتمل
أن يُحمل المطلق على المقيد في الحديث الأول ويكون التقدير لا يزال هذا
الأمر؛ أي لا يُسمى بالخليفة إلا من يكون من قريش؛ إلا أنْ يُسمّى به أحد
من غيرهم غَلَبةً وقهراً. وإما أنْ يكون المراد بلفظه الأمر وإنْ كان لفظه
لفظ الخبر" .
أما المناوي (ت1031هـ) فهو يرى أنها جاءت على صيغة
الخبر لا الأمر؛ وبالتالي فإنه لا يترتب عليها حُكم. يقول: "هذا على جهة
الإخبار عنهم لا على طريق الحُكم فيهم؛ أي إذا صَلُح الناس وبرّوا وَلِيَهم
الأخيار، وإذا فسدوا وفجروا ولِيهم الأشرار، وهو كحديثه الآخر: كما تكونوا
يُوَلّى عليكم" .
وإذا انتقلنا إلى المُحْدَثين وجدنا أنّ الدكتور
يحيى إسماعيل قد تعقب ابن حزم فيما ذهب إليه مِنْ أنّ الصيغة إنْ كانت دالة
على الأمر فحرامٌ أنْ يكون الأمرُ في غيرهم أبدا، وإنْ كانت دالة على
الخبر؛ فمن لم يكن من قريش فلا أمرَ له وإن ادّعاه. إذْ كيف يجعل ابن حزم
المعنى واحداً سواءً كانت الصيغة تدل على الأمر أو الخبر .
أمّا
الشهيد عبد القادر عودة؛ فقد رجح كون معظم الأحاديث جاءت بصيغة الخبر فلا
يترتب عليها أحكام. يقول: "إنّ الأحاديث كلها وردت بصيغة الخبر، عدا حديث
«استقيموا لقريش ما استقاموا لكم» وحديث «قَدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها»
فإنهما وردا بصيغة الأمر. والأحاديث الواردة بصيغة الخبر ليست أحكاماً،
وإنما هي أخبار عن حال قريش وما يحدث لها، ومجموعها يفيد أنّ الإمامة ستكون
فيهم ما أطاعوا الله، ولو بقي من الناس اثنان، فإذا عصوا الله بعث عليهم
من يُقصيهم عنها. أما الحديثان الواردان بصيغة الأمر؛ فقد جاءا ببيان ما
يجب على الأمة من معاملة قريش ما دامت مستقيمة على أمر الله " .
ثانياً: هل الإمامة مقصورة على قريش ؟
يُعدّ هذا الموضوع هو
لبّ القضية التي يدور حولها الحديث. فقد اهتم علماؤنا منذ القِدَم بمنصب
الإمامة، والشروط الواجب توفرها في الإمام ليكون مستحقاً لهذا المنصب؛ لما
لهذا المنصب من خطورة وحساسية؛ لكون صاحبه متحكماً بأمور الأمة ومتصرفاً في
شؤونها. فوضعوا للإمام شروطاً، أهمها: (الإسلام، التكليف، الذكورة، سلامة
الأعضاء، العلم والاجتهاد، العدالة، الكفاية الجسمية والنفسية، القرشية).
وهذا الشرط الأخير هو الذي يدور حوله الحديث الذي نتناوله بالبحث في هذه
الدراسة. فهل الإمامة في قريش وحدها ؟ بمعنى: هل هي مقصورة عليهم دون غيرهم
؟ وهل هذا الشرط باقٍ حتى يومنا هذا ؟ أم أنه زال بزوال مجد قريش ؟ هذه
الإشكاليات سنحاول الوقوف عليها بشيء من التفصيل، من خلال أقوال المتقدمين
والمتأخرين حول مفهوم الحديث.
1. أقوال المتقدمين
يقول الباقلاني
(403هـ) وهو يتكلم عن صفات الإمام: "يجب أن يكون على أوصافٍ، منها أنْ يكون
قرشياً في الصميم" .
ويؤكد البغدادي (ت429هـ) ضرورة وجود هذا الشرط
بقوله: "دليل أهل السنة على أنّ الإمامة مقصورة على قريش ، قول النبي صلى
الله عليه وسلم : «الأئمة من قريش».
ولهذا الخبر سلّمت الأنصار الخلافة
لقريش يوم السقيفة ؛ فحصل بالخبر وإجماع الصحابة الدليل على أن الخلافة لا
تصلح لغير قريش، ولا اعتبار بخلاف من خالف الإجماع بعد حصوله" . وينسب
البغدادي هذا الرأي إلى أبي حنيفة والشافعي .
وهذا ما أكده الماوردي
(ت450هـ) بقوله: "أمّا النسب؛ فهو أن يكون من قريش؛ لورود النص فيه،
وانعقاد الإجماع عليه" .
كما بالغ ابن حزم الأندلسي (456هـ) في
التشديد على هذا الشرط، لدرجة أنه ينفي الإمامة عن كل من لم يكن قرشياً.
يقول: "ولا تحلّ الخلافة إلا لرجلٍ من قريش، من ولد فهر بن مالك، منْ قِبَل
آبائه ... إذ لو جاز أنْ يوجد الأمر في غير قريش؛ لكان تكذيباً لخبر النبي
صلى الله عليه وسلم وهذا كفرٌ ممن أجازه. فصحّ أنّ منْ تَسَمّى بالأمر
والخلافة من غير قريش، فليس خليفة ولا إماماً ولا أمرَ له؛ لتعديهم حدود
الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقال أبو يعلى
الفراء (458هـ): "وأمّا أهل الإمامة فيُعتبر فيهم أربعة شروط: أحدها أنْ
يكون قرشياً من الصميم ... وقد قال أحمد في رواية: لا يكون من غير قريش
خليفة " .
أما إمام الحرمين الجويني (ت478هـ) فقد كانت له وقفة أخرى
مع هذا الموضوع، فقد اعترض على القائلين بتواتر هذا الحديث فقال: "وهذا
مسلك لا أوثره؛ فإنّ نَقَلَة هذا الحديث معدودون، لا يبلغون مبلغ عدد
التواتر" .
فهو لا يقبل الاستدلال بهذا الحديث، وينكر اقتضاءه العلم
باشتراط النسب في الإمامة. ويرى أنّ هذا الشرط ليس له مستندٌ لا من النقل
ولا من العقل. يقول: "ولسنا نعقلُ احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب. ولكن
خصص الله هذا المنصب العليّ، والمرقب السَّنيّ بأهل بيت النبي، فكان ذلك
من فضل الله يؤتيه من يشاء" .
وزاد الجويني على ذلك بأنْ فضّلَ غير
القرشي على القرشي إذا كان أكثر أهلية لهذا المنصب. يقول: "إذا وُجد قرشي
ليس بذي دراية، وعاصره عالم تقيّ، يُقَدّم العالم التقي. ومن لا كفاية فيه؛
فلا احتفال به، ولا اعتداد بمكانه أصلاً" .
وعلى الرغم من إنكار
الجويني لتواتر هذا الحديث؛ إلا أنه حاول أن يضع له تعليلاً. يقول: "فالوجه
في إثبات ما نحاوله في ذلك، أنّ الماضين ما زالوا بايحين باختصاص هذا
المنصب بقريش، ولم يتشوّف قط أحد من غير قريش إلى الإمامة، على تمادي
الآماد وتطاول الزمان، مع العلم بأن ذلك لو كان ممكناً، لطلبه ذوو النجدة
والبأس، وتشمّر في ابتغائه عن ساق الجدّ أصحاب العَدد والعُدد، وقد بلغ
طلاب المُلك في انتحاء الاستعلاء على البلاد والعباد أقصى غايات الاعتداء،
واقتحموا في رَوْم ما يحاولونه المهاوي والمعاطب والمساوئ، وركبوا الأغرار
والأخطار، وجانبوا الرفاهية والدّعة والأوطان، فلو كان إلى ادّعاء الإمامة
مسلك، أو له مدرك، لزاوله مُحقّون أو مُبطلون، من غير قريش، ولما اشرأبّ
لهذا المنصب المارقون في فسطاط مصر، اعْتَزَوْا أولاً إلى شجرة النبوة على
الافتراء، وانتموا انتماء الأدعياء، وبذلوا حرائب الأموال للكاذبين
النسّابين، حتى ألحقوهم بصميم النسب. فهذا ما تطابقت عليه مذاهب طبقات
الخلق، وقد تصدّى للإمامة ملوك من قريش، وإن لم يكونوا على مرتبة مرموقة في
العلم؛ والسبب فيه أنّ العلم يدّعيه كل شادٍ مستطرف، فإذا انضمت أبّهة
الملك إلى قليل من العلم، لم يستطع أحدٌ نسبة المَلك إلى العُرُوّ عن
العلم. والنسب مما لا يمكن ادّعاؤه؛ فلمْ يَدّع – لذلك – الإمامة منْ ليس
نسيباً" .
وقال ابن الجوزي (597هـ): "فجعل الله الرياسة والإمارة فيهم –
أي قريش – ثم ساق الأحاديث النبوية الواردة في ذلك" .
وقال العز بن
عبد السلام (ت660هـ): "وشَرْطٌ في الأئمة أنْ تكون أفضل الأمة، لأن ذلك
أقرب إلى طواعيتهم على المساعدة في طلب المصالح ودرء المفاسد، وأمر بطواعية
الأفاضل بشرط أن يكون الأئمة من قريش، لأن الناس يبادرون إلى طواعية
الأفاضل في الأنساب والأحساب والدين والعلم، ويتقاعدون عن طواعية الأراذل،
بل يتقاعدون عن طواعية أمثالهم، فما الظن بمن هو دونهم" .
أما النووي
(ت676هـ)، فيرى "أنّ الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم،
وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم. ومن خالف فيه من أهل
البدع، أو عرض بخلاف من غيرهم؛ فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن
بعدهم بالأحاديث الصحيحة" . ثم نقل النووي عن القاضي قوله بأن اشتراط كون
الإمام قرشياً "هو مذهب العلماء كافة .. وقد احتج به أبو بكر وعمر – رضي
الله عنهما – على الأنصار يوم السقيفة، فلم ينكره أحد .. وقد عدّها العلماء
في مسائل الإجماع، ولم يُنقل عن أحدٍ من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما
ذكرنا، وكذلك مَنْ بعدهم في جميع الأعصار .. ولا اعتداد بقول النظّام ومن
وافقه من الخوارج أهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن
عمرو في قوله: إنّ غير القرشي من النبط وغيرهم، يُقَدّم على القرشي؛ لهوان
خلعه إنْ عَرَضَ منه أمر، وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه، مع ما هو
عليه من مخالفة إجماع المسلمين" .
أمّا ابن خلدون (ت808هـ) فكان له
رأيٌ خاص في هذا الموضوع، فقد اعتبر أنّ حديث «الأئمة من قريش» راعى ما كان
لقريش في عصره من القوة والعصبية التي تقوم عليها الخلافة أو الملك. وهذا
يعني أنّ حقّ قريش في الخلافة قد زال بزوال قوتها وغلبتها. يقول في ذلك:
"لأنّ قريشاً كانوا عُصبة مُضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم، وكان سائر العرب
يعترف لهم بذلك، فلو جعل الأمراء من سواهم لتُوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم
وعدم انقيادهم، ولا يَقدِر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا
يحملهم على الكره، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة، والشارع مُحذِّر من ذلك
حريص على اتفاقهم، بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش؛ لأنهم قادرون على سَوْق
الناس بعصا الغلب إلى ما يُراد منهم، فلا يُخشى من أحد خلاف عليهم ولا
فرقة؛ لأنهم كفيلون حينئذٍ بدفعها ومنع الناس منها، فاشترط نسبهم القرشي في
هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية؛ ليكون أبلغ في انتظام الملّة واتفاق
الكلمة، وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مُضر أجمع؛ فأذعن لهم
سائر العرب، وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية
البلاد؛ كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحلّ
أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب. فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع
التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أنّ الشارع لا يخص الأحكام
بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أنّ ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها
وطلبنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية، وهي وجود العصبية، فاشترطنا
في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية غالبة على من معها
لعصرها، وإذا نظرتَ سر الله في الخلافة لم تعد هذا؛ لأنه سبحانه إنما جعل
الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن
مضارهم، وهو مخاطب بذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه، ثم إن
الوجود شاهد بذلك؛ فانه لا يقوم بأمر أمّة أو جيل إلا من غلب عليهم، وقلّ
أن يكون الأمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي" .
وذكر أبو يحيى
الأنصاري (ت926هـ) أن من شروط الإمام أن يكون "قرشياً لخبر النسائي «الأئمة
من قريش» فإنْ فقد فكناني، ثم رجل من بني إسماعيل، ثم عجمي على ما في
التهذيب، أو جرهميّ على ما في التتمة، ثم رجل من بني إسحاق" .
وذكر
الخطيب الشربيني (ت997هـ) مثل ذلك فقال في تعداده لشروط الإمامة: "خامسها
كونه قرشياً؛ لخبر النسائي «الأئمة من قريش» وبه أخذ الصحابة ومن بعدهم،
هذا عند تيسّر قرشي جامع للشروط، فإن عُدم فمنتسب إلى كنانة، فإن عُدم فرجل
من بني إسماعيل صلى الله عليه وسلم ، فإن عُدم فرجل جرهمي كما في التتمة،
وجرهم أصل العرب، ومنهم تزوج سيدنا إسماعيل حين أنزله أبوه صلى الله عليه
وسلم أرض مكة، فإن عُدم فرجل من بني إسحاق صلى الله عليه وسلم ، ثم إلى
غيرهم. ولا يشترط كونه هاشمياً باتفاق؛ فإن الصدّيق وعمر وعثمان - رضي الله
تعالى عنهم – لم يكونوا من بني هاشم " .
وقال المناوي (ت1031هـ):
"ذهب الجمهور إلى العمل بقضية هذا الحديث؛ فشرطوا كون الإمام قرشياً وقيده
طوائف ببعضهم؛ فقالت طائفة - وهم الشيعة – لا يجوز إلا من ولد علي. وقالت
طائفة: لا يجوز إلا من ولد جعفر بن أبى طالب، نقله ابن حزم. وقالت أخرى: من
ولد عبد المطلب. وقال بعضهم: لا يجوز من ولد أمية. وبعضهم: لا يجوز إلا من
ولد عمر. قال ابن حزم ولا حُجة لأحد من هؤلاء الفرق. وقال الخوارج وطائفة
من المعتزلة: يجوز كون الإمام غير قرشي؛ وإنما الإمام من قام بالكتاب
والسنة ولو أعجمياً. وبالغ ضرار بن عمرو؛ فقال: تولية غير القرشي أَوْلى
لأنه أقل عشيرة؛ فإذا عصى أمكن خلعه. قال ابن الطيب: ولم يعرّج على هذا
القول بعد ثبوت خبر «الأئمة من قريش»، وانعقد الإجماع على اعتباره قبل وقوع
الخلاف" .
2. أقوال المُحْدَثين
بعد أن أوردنا أقوال المتقدمين،
نورد فيما يلي أقوال المحْدَثين في فهم هذا الحديث، وكيفية الاستدلال به.
يقول
الدكتور حسن بسيوني بعد أن أشار إلى الاختلاف في فهم الحديث: "وفي رأينا
أنه قد يكون لهذا الشرط دور في بداية الدولة الإسلامية، إلا أنه بعد انتشار
الدين من الصين والهند إلى الأندلس، أضحى التمسك بهذا الشرط محلّ نظر، إذ
الإسلام يقوم على التآخي والمساواة وبغض العصبية ... والتمسك بالنسب
والعصبية من شأنه أن يثير النفوس لا سيّما والمسلمون سواسية وأساس التفضيل
بينهم التقوى، لقوله تعالى: )إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ( وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا
لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض؛ إلا بالتقوى».
من ذلك يتبين أنّ الكتاب والسنة أقرا أنّ أساس التفضيل التقوى، وليس
الانتساب إلى جنس أو قبيلة معينة" .
وللحديث بقية إن شاء الله فى
الجزء الثالث غداً
الجزء الثالث
تااااااابع
!
!